يقول الشيخ علي في حديثه عن جحود الناس بعد النعمة والنسيان:" أظنهم يقولون إن في الأرض شيئين بمعنى واحد : قبور الأموات في بطنها،وأكواخ الفقراء على ظهرها ، وليس من فرق بينهما في النسيان لأنه يشملهما جميعا ، وإنما الفرق بينهما في حاليهما المتناقضين ، هذا قبر ميت وهذا قبر حي".
كنت وأنا صغير أري وجوهاً من الحياة اكتشفت الآن أنها كانت في أحلامي فقط، أو أن هذه الوجوه قد ذهبت بموت الكبار من أهلينا ومعارفنا، وتشعر أنهم قد أخذوا معهم الخير والاحترام وكل المعاني النبيلة.
كانت أمي- رحمها الله- معتادة علي عمل الخبز والفطائر بأنواعها المختلفة بنفسها، ولا أذكر مرة وأنا صغير أنني ذهبت لشراء الخبز مثلما كان يفعل أصحابي، وكانت عندما تنتهي من خبيزها- أو أثناء ذلك- تجهز مجموعة مختلفة مما عملت يداها وتضعها في قطعة من القماش وتقم بتغطيته بإحكام حتي لا يبين للناس ما في داخل هذه القطعة من القماش، ثم تعطيها لي وتقول لي: اذهب إلي فلانة وأعطها هذه اللفة.
فآخذ منها- رحمها الله- اللفة وأحملها فوق يدي وأهرول مسرعاً في طريقي، وكنت أشعر بحرارتها تلسع يدي ولكني كنت مستمتعاً بهذه الحرارة ومحباً لها،أذهب وفي داخلي إحساس جارف من السعادة يكاد يطير بي من فوق الأرض، وأذهب لفلانة أدق عليها الباب، وكانت فلانة هذه سيدة عجوز لها من الأولاد والأحفاد الكثير، ولكنها قابعة في غرفة أكلت جدرانها قسوة أبنائها وأحفادها، وارتسمت فوق هذه الجدران لوحات من البؤس والوحدة والشقاء الخارج عن الإرادة، وهنالك في ركن من أركان حجرتها أجد الحزن واقفاً يعلن عن سيطرته علي جميع المنافذ التي تستطيع السعادة أن تنفذ من خلالها إلي تلك الحجرة، وتبقي مكابدة السؤال هي الونيس الوحيد لها في حجرتها ليل نهار.
فكنت في كل مرة أذهب فيها إلي هذه السيدة أذهب متحدياً ذلك الحزن البغيض الذي كنت أراه واقفاً أمامي علي باب حجرتها، ولكني كنت أواجهه وأنفذ من خلاله إليها محاولاً إدخال بعض السعادة في أعقابي.
تفتح لي الباب فأدخل، وتستقبلني بالقبلات وتجلسني أمامها، ثم أعطيها ما أحمله فوق يدي، فتتناوله وهي فرحة به، ليس لأنه طعام قد جاء دون عناء السؤال أو مكابدة الحال، ولكنها كانت تشعر من خلال ذلك بأنها موجودة وغير منسية، وأن هناك من الأحياء مَن يشعر بوجودها ويدق عليها باب قبرها الحي.
ثم تأكل وتبكي، ولم أكن أعرف وقتها لماذا تبكي، كان عقلي الصغير يصور لي أنها تبكي من سخونة الخبز!! أو من هذا الحزن العابس القبيح الوجه الذي كنت أراه عندما أذهب إليها!! وفي ذات مرة سألت أمي عن سبب بكاء جارتنا هذه في كل مرة أذهب إليها؟ فجاوبتني أمي بطيبتها وفطرتها بأن الله يريد ذلك- "ربنا عاوز كده"، وأثارت هذه الإجابة نفسي إثارة لم تنتهي حتي قدر الله لي أن أفهم لماذا أراد الله ذلك لهذه السيدة، ولماذا أراد الله لي أن أشاهد ذلك وأسأل هذا السؤال، ولكني علي كل حالٍ عرفت لماذا كانت تبكي.
ليس الفقر أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الإنسان، ولا هو عدو من أعداء النفس البشرية السليمة، قد يبكي الإنسان من فقره ويشكيه إلي الله والناس، ولكن هناك أشياء أخري كثيرة تُبكي الإنسان ليس الفقر أولها، بل هنالك ما هو أسوأ في طبائع البشر من جحود ونكران، ونسيانهم بأنهم كانوا في يوم من الأيام أحوج من الفقراء المعدمين إلي الرحمة والاهتمام، قد ينسي الإنسان أنه في يوم من الأيام لم يكن من الذين يتنفسون علي ظهر هذا الكوكب وأن أمه هي كانت البوابة التي عبر منها إلي هذه الحياة، قد ينسي الإنسان أن أمه قد حملته داخل أحشائها 9 أشهر عناءً بعناء وتعباً فوق تعب، قد ينسي أيضاً أنها كانت تبني جسده من جسدها وتعطيه من قوتها ما يستطيع به أن يقوي، ولكن لا يجب علي الإنسان أن ينسي أبداً بأنه كما يدين يدان، وأن الأيام بها من الغدر والدوائر ما سوف يجعله أحوج بكثير إلي الرعاية ممن كانت رعايتهم واجبة عليه ولكنه نسي.. نعم نسي
كنت وأنا صغير أري وجوهاً من الحياة اكتشفت الآن أنها كانت في أحلامي فقط، أو أن هذه الوجوه قد ذهبت بموت الكبار من أهلينا ومعارفنا، وتشعر أنهم قد أخذوا معهم الخير والاحترام وكل المعاني النبيلة.
كانت أمي- رحمها الله- معتادة علي عمل الخبز والفطائر بأنواعها المختلفة بنفسها، ولا أذكر مرة وأنا صغير أنني ذهبت لشراء الخبز مثلما كان يفعل أصحابي، وكانت عندما تنتهي من خبيزها- أو أثناء ذلك- تجهز مجموعة مختلفة مما عملت يداها وتضعها في قطعة من القماش وتقم بتغطيته بإحكام حتي لا يبين للناس ما في داخل هذه القطعة من القماش، ثم تعطيها لي وتقول لي: اذهب إلي فلانة وأعطها هذه اللفة.
فآخذ منها- رحمها الله- اللفة وأحملها فوق يدي وأهرول مسرعاً في طريقي، وكنت أشعر بحرارتها تلسع يدي ولكني كنت مستمتعاً بهذه الحرارة ومحباً لها،أذهب وفي داخلي إحساس جارف من السعادة يكاد يطير بي من فوق الأرض، وأذهب لفلانة أدق عليها الباب، وكانت فلانة هذه سيدة عجوز لها من الأولاد والأحفاد الكثير، ولكنها قابعة في غرفة أكلت جدرانها قسوة أبنائها وأحفادها، وارتسمت فوق هذه الجدران لوحات من البؤس والوحدة والشقاء الخارج عن الإرادة، وهنالك في ركن من أركان حجرتها أجد الحزن واقفاً يعلن عن سيطرته علي جميع المنافذ التي تستطيع السعادة أن تنفذ من خلالها إلي تلك الحجرة، وتبقي مكابدة السؤال هي الونيس الوحيد لها في حجرتها ليل نهار.
فكنت في كل مرة أذهب فيها إلي هذه السيدة أذهب متحدياً ذلك الحزن البغيض الذي كنت أراه واقفاً أمامي علي باب حجرتها، ولكني كنت أواجهه وأنفذ من خلاله إليها محاولاً إدخال بعض السعادة في أعقابي.
تفتح لي الباب فأدخل، وتستقبلني بالقبلات وتجلسني أمامها، ثم أعطيها ما أحمله فوق يدي، فتتناوله وهي فرحة به، ليس لأنه طعام قد جاء دون عناء السؤال أو مكابدة الحال، ولكنها كانت تشعر من خلال ذلك بأنها موجودة وغير منسية، وأن هناك من الأحياء مَن يشعر بوجودها ويدق عليها باب قبرها الحي.
ثم تأكل وتبكي، ولم أكن أعرف وقتها لماذا تبكي، كان عقلي الصغير يصور لي أنها تبكي من سخونة الخبز!! أو من هذا الحزن العابس القبيح الوجه الذي كنت أراه عندما أذهب إليها!! وفي ذات مرة سألت أمي عن سبب بكاء جارتنا هذه في كل مرة أذهب إليها؟ فجاوبتني أمي بطيبتها وفطرتها بأن الله يريد ذلك- "ربنا عاوز كده"، وأثارت هذه الإجابة نفسي إثارة لم تنتهي حتي قدر الله لي أن أفهم لماذا أراد الله ذلك لهذه السيدة، ولماذا أراد الله لي أن أشاهد ذلك وأسأل هذا السؤال، ولكني علي كل حالٍ عرفت لماذا كانت تبكي.
ليس الفقر أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الإنسان، ولا هو عدو من أعداء النفس البشرية السليمة، قد يبكي الإنسان من فقره ويشكيه إلي الله والناس، ولكن هناك أشياء أخري كثيرة تُبكي الإنسان ليس الفقر أولها، بل هنالك ما هو أسوأ في طبائع البشر من جحود ونكران، ونسيانهم بأنهم كانوا في يوم من الأيام أحوج من الفقراء المعدمين إلي الرحمة والاهتمام، قد ينسي الإنسان أنه في يوم من الأيام لم يكن من الذين يتنفسون علي ظهر هذا الكوكب وأن أمه هي كانت البوابة التي عبر منها إلي هذه الحياة، قد ينسي الإنسان أن أمه قد حملته داخل أحشائها 9 أشهر عناءً بعناء وتعباً فوق تعب، قد ينسي أيضاً أنها كانت تبني جسده من جسدها وتعطيه من قوتها ما يستطيع به أن يقوي، ولكن لا يجب علي الإنسان أن ينسي أبداً بأنه كما يدين يدان، وأن الأيام بها من الغدر والدوائر ما سوف يجعله أحوج بكثير إلي الرعاية ممن كانت رعايتهم واجبة عليه ولكنه نسي.. نعم نسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق