لم أستطع النوم في هذه الليلة.. استقبلتُ آذان الفجر ورأسي تشتعل قلقا عليها.. أفكر فيها طوال الليل.. صليت الصبح وارتديت ملابسي في بطئ شديد.. كنت عندما أضع قطعة من الملابس على جسدي لارتدائها أشرع في استنشاق رائحتها.. والتفكير في أنها هي من اعتنت بهذه الملابس وبي .. توجهت نحو باب شقتي وفتحت الباب وهممت بالنزول.. ولكني فجأة استدرتُ وأخذت أنظر إلى كل أركان المنزل وكأني أودعه نيابة عنها.. صارعت دمعة في عيوني صراعا كبيرا.. ولكنها هزمتني وسالت.. وانطلقتُ متوجها إليها.. يقودني خليط من المشاعر التي لا أستطيع أن أفصلها أو حتى أصف ملامحها.. لكنها كانت مشاعر جارفة تدفعني دفعا للذهاب اليها..خرجتُ إلى الشارع ورفعت عيني إلى السماء.. وكانت وقتها قبيل شروق الشمس بلحظات.. وتذكرت كلماتها وهي تقول عندما كنا ننتهي من صلاة الفجر " استمتع بهذا الجو الصحو فهذا هو جو أهل الجنة.. لا برد ولا حر ".. ومرة أخرى وجدتني أصارع دمعة أخرى.. ولكني هذه المرة لم أصارعها كثيرا وتركتها تعبر صفحة خدي علها تزيل قليلا مما يحمله صدري من شاعر ثقيلة.. واستفقت على سائق تاكسي يعبر الشارع فشاورت له فوقف.. فركبت وانطلقنا.. وطول المسافة من بيتي إلى المستشفى لم أتكلم ولم أعي لما حولي.. كانت تسيطر على عقلي وقلبي فكرة واحدة فقط... هي أنني سوف أقابلها وهي في أحسن حال.. وقفت أمام باب المستشفى أقدم رجلا وأؤخر الأخرى..ولكني على كل حال استجمعت قواي ولملمت نفسي ودخلت.. وعلى باب غرفتها حرصت أن أختلس النظر إليها قبل أن أدخل عليها.. فنظرت فوجدتها نائمة على سريرها نوما هادئا ..فاقتربتُ دون أن أحدث أقل صوت خوفا من أن تصحو.. وان كنت أريد أن تصحو بكل جوارحي.. وعندما جلست بجانبها فتحت عينيها ونظرت إلى في حنين وقالت: لماذا أتيت مبكرا هكذا؟ فقلت لها وأنا أجبر وجهي على الابتسام: لا أريد أن أضيع أي وقت بعيدا عنك..فوجم وجهها لثوانٍ ولكنها حاولت أن تبتسم ولكنها فشلت في ذلك.. وأدارت وجهها عني وأخذت تبكي بكاءا مكتوما.. ولكنه لم يكن مكتوما بالنسبة لي.. وكأن قلبي هو الذي كان يبكي.. وكل قطرة من قطرات دموعها كانت وكأنها جبلا يقع فوق رأسي.. وقاومت دموعي مقاومة شديدة هذه المرة وانتصرت عليها .. ونظرت اليها وأنا أحاول الابتسام وقلت: ماذا الآن؟ أنا موجود بجانبك.. وإن شاء الله سوف تخرجين اليوم أو غدا كما أخبرني الطبيب.. والحمد لله حالك اليوم أحسن من أي يوم مضى .. فطلبت مني أن أحضر لها بعض الأشياء .. فذهبت مسرعا لاحضار ما طلبته.. وعندما عدت وجدتها جالسة فوق سريرها محنية الرأس.. وبجانبها الممرضة تحاول أن تتكلم معها.. وبعدها بقليل جاءت ممرضة أخرى ومعها جهاز التنفس الصناعي.. فقالت لها الممرضة.. ايه يا جميل .. ها هو محمد .... فرفعت رأسها ببطئ ونظرت إليّ وابتسمت ابتسامة لا أستطيع أن أصفها رغم كل محاولاتي.. ابتسامة أخرجتني من الدنيا وذهبت بي إلى عالم علوي.. ابتسامة أراها كل يوم قبل أن أخلد إلى نومي ولا أستطيع أن أصفها.. تلك الابتسامة التي عرفت بعدها بدقائق أنها كانت ابتسامة الوداع.. ولكن هذه الابتسامة كان فيها كلاما كثيرا وقع في قلبي بكل حرف من حروفه.. هذه الابتسامة اختصرت كل الكلام الذي كانت تريد أن تقوله في ابتسامة .. فجاء الطبيب وأخرجني من الغرفة.. وخرجت وأنا لا أرى أمامي إلا هذه الابتسامة.. ودقائق أخرى وخرج الطبيب.. وقرأت في وجهه ما يريد أن يقوله.. فاقترب مني وقال.. شد حيلك البقاء لله.. سكتُ ولم أستطع أن أقول شيئا.... وتوجهت نحو الغرفة ودخلت عليها.. واقتربت واقتربت حتى أزلت الغطاء عن وجهها أملا في أن أرى تلك الابتسامة على وجهها.. ونظرت لوجهها فرأيته نائما نوما هادئا كما رأيتها عندما دخلتُ عليها في أول اليوم.. واحتضنتها بقوة وأنا أبكي .... وجاءت خالتي فنظرت إلى وجهي فعرفت فيه ما أصابني.. فانهارت.. وانا لازلت واقفا في مكاني أري تلك الابتسامة .. ماتت أمي .. ولم أكن أعرف قبلها ماذا يعني موت الأم بالنسبة للمرء..كنت أعتقد أن موت الأب أصعب من موت الأم.. ولكني ومنذ ماتت أمي لم أشعر بالأمان.. كأنها أخذت معها كل صلة تصلني بالأمان.. الأم هي مملكة الأمان في كل وقت.. وما حملني على كتابة هذه الكلمات ما رأيته في منامي أمس وما شعرت به من أمان وأنا نائم بجانبها كما كنت أفعل وأنا صغير..وعندما استيقظت من نومي في لحظة فقدت الاحساس بالأمان وراودني نفس الشعور الذي كنت أشعر به عندما كنت صغيرا عندما كنت أستيقظ في الليل ولا أجدها بجانبي.. أوصي الجميع بأن يبر والديه .. وأوصي كل الذين يتمتعون بأمهاتهم بأن يأخذوا من حضنها قدر ما يستطيعون.. صدقوني ليس هناك مثل حضن الأم.. الأم هي الشخص الوحيد الذي يحبك دون أن ينتظر منك أن تبادله هذا الحب أو جزء منه.. متعكم الله بأمهاتكم.. ورحم الله أمهاتنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق