المشاركات الشائعة

الاثنين، 29 أغسطس 2011

عطلة شاقة في البحرين


ذهبت إلي مملكة البحرين لأول مرة في حياتي، بالتأكيد لم تكن عطلة أو أجازة، ولكن زيارتي كانت زيارة عمل بحتة، ولكني استمتعت كثيراً بهذا البلد الجميل، وأكثر ما أمتعني فيها وأعجبني أهل هذا البلد، لما يتمتعون به من كرم الضيافة وبشاشة الوجه وطيب النفس وحسن الخلق، وأكثر من ذلك بل أهمه علي الإطلاق أنه شعب محبٌ للعمل، لا يأنف أهله أن يعملوا بأي عمل شريف، ولن تجد هنالك من يصمم علي أن يبدأ حياته مديراً لشركة استثمارية أو رئيساً لقطاع حكومي، بل ستجد من يعمل سائقاً ويعمل حارساً وعاملاً، رغم أنه بلد يمتلك خيراً كثيراً ونفطا، ولكن هذا الشعب يحب أن يكون شعباً منتجاً عاملاً.

**********

كنت نزيلاً في أحد الفنادق البحرينية الفخمة أثناء زيارة العمل التي قضيتها هناك، ولم أكن معتاداً علي مثل هذا الجو في اعتياد حياتي، ولكنها تجارب وأيام، وكانت في هذا الفندق شقراء جميلة ذات ملامح صارمة، ولكنه ورغم صرامة تقاسيم وجهها إلا أنها كانت تشع جمالاً وأنوثة، وكانت تأتي إلي الفندق كي تعزف علي آلة البيانو للنزلاء في بهو الفندق.

مازالت ألحان موزارت التي كانت تعزفها كل ليلة عالقة برأسي، كانت في كل يوم تداعب أحاسيسي وتطلق مشاعري المحبوسة وراء قضبان الزمن منذ سنوات، كانت تأتي في ردائها الأحمر- عادة- تختال من ورائها العيون، ثم تجلس معتدلة كأنثى الطاووس أمام البيانو وتبدأ في مداعبة مفاتيحه بأصابعها في نعومة ويسر، فتخرج هذه المداعبة ألحاناً تدور بي في فلك من السحر وبحر من الذكريات.

**********

قضيت نصف شهر ديسمبر الماضي في مملكة البحرين حيث كنت أعد لملتقي قادة الإعلام العربي الأول الذي ضم نخبة بارزة من قيادي المؤسسة الإعلامية العربية، وعقب وصولي للملكة تلقيت دعوة من الشيخة مي آل خليفة وزيرة الثقافة والإعلام في المملكة لحضور حفل موسيقي في منطقة تسمي " البيوت "، لم يتبادر إلي ذهني أن منطقة البيوت هذه علي الشكل الذي رأيته، فعندما ذهبت إلي هناك وجدت نفسي أمام مشروعٍ ثقافي تاريخي ضخم، حيث عملت وزارة الثقافة في المملكة علي تجسيد التراث البحريني وإحيائه من جديد عن طريق ترميم البيوت القديمة وإعادة بنائها في مدينة " المحرق ".

كنت وأنا أسير بين البيوت هذه في شوارعها الضيقة أري الأبواب العتيقة التي تميزت بها بيوت المدينة فيما مضي، فيتجسد التاريخ حياً في أعماقي، وأتعايش مع التفاصيل بكل ما تحمله من عبق التاريخ والأيام التي خلت.

حقيقة لقد بهرني ما رأيته في هذه النماذج الحية التي تجسد التاريخ المعاصر لمملكة البحرين في عملٍ يشكر عليه كل من قدم فكرة أو مساعدة من أي نوع من أجل إنجاز هذا العمل القيم، الذي سوف يعطي الأجيال البحرينية شخصيتهم وسيحافظ علي هوية هذا البلد الصغير والجميل.

**********

ضم ملتقي قادة الإعلام الذي عقد في مملكة البحرين العديد من الشخصيات الإعلامية البارزة علي مستوي العالم العربي، من وزراء إعلام ورؤساء محطات فضائية ورؤساء تحرير صحف، كما ضم عدد من رؤساء المنظمات العالمية المرتبطة بالإعلام والصحافة، ولكني هنا أود الإشارة إلي أمر لفت نظري بشدة خلال هذا الملتقي، حيث كان الملتقي يتضمن جدول أعمال به ثلاث جلسات علي مدار يومين، وكانت الجلسات طبعاً لها ميعاد محدد، وكنت أنا من يأخذ علي عاتقه تنبيه الضيوف المشاركين بمواعيد الجلسة قبل انعقادها، وكنت أعاني حقيقة من هذا الأمر لأن الجلسة كانت تبدأ في العاشرة صباحاً وكل المدعوين لا يحضر أحد منهم في الميعاد المحدد وكنت أضطر إلي الذهاب إليهم وحثهم علي دخول الجلسة، وتنبيههم بأن الجلسة سوف تبدأ، كنت أفعل ذلك مع كل المدعوين إلا واحداً منهم وهو رئيس الاتحاد الدولي للصحافيين والذي كان يتواجد في مكان انعقاد الجلسة قبل بدايتها بربع ساعة علي الأقل، وهو بالطبع ليس عربي، وأنا لا أقصد الإساءة ولكني كنت أسمع الناس يتحدثون عن المواعيد ويفرقون بين الميعاد الانجليزي و الميعاد العربي، مما يعني أن الميعاد الانجليزي أو " الخواجاتي " عموماً أضبط من الميعاد العربي، وهذه نقطة نظام أحببت أن أنقلها إلي القارئ..

أمل الغريب


اعلم أن الدنيا لم تكن لتسعد الناس جميعا.. ولن تعرض عن الناس جميعا.. لأنها لو أعرضت عن الناس جميعا لتعطلت الحياة.. ولو أسعدت الناس جميعا لعم الفساد ..

فيا كل من أرقت الغربة مضاجعهم.. و يا كل من خذلتهم الأمانى ..ويا كل المسافرين على مراكب النسيان .. و يا كل من تركوا قلوبهم للعراء فنال منها الصدأ و تعطلت اّلة أشواقهم.. وباتت أرواحهم تموج فى بحور من الحيرة هى للاستسلام أقرب منها إلى الأمل.. فيا كل الغرباء فى المدن الغريبة .. ويا كل الغرباء فى أنفسهم: لا تتخلوا عن اّمالكم و لا تطرحوها أرضا..أيحب أحدكم أن تكون حياته جوفاء؟!!

بلا أمل هى مجرد حياة تعاش .. ويا ليتها تعاش كما نريد أن نعيشها.. بل نعيشها رغم الأنف.. فإذا كنا فى هذه الحياة لابد أحياء فلا يجب أن نحياها بلا أمل ..

إن الأمل هو وقود الحياة ومحركها.. ولا يتعين علينا أن نجعل الحياة قاسية كالصحراء لاماء بها ولازرع.. لايتعين على كل عاقل أن يترك الأمل ورائه وينصرف إلى الحياة المادية المجردة من المشاعر التى من شأنها أن تشعر الإنسان بأنه حى.. بل يتعين عليه أن يبحث عن الأمل بحثا دؤبا..

و المرء قد يجد الأمل فى ذكرى تمر على قلبه مرور النسيم المحمل برائحة ورود الربيع فى القيظ.. و قد يجده فى نظرة عين تعيد الماء العذب إلى جنته التى تيبست جذور أشواقها.. ومالت شمسها نحو الغروب.. قد يجده فى صديق صدوق يصدق مصاحبتك و يكون لك كالأخ الذى لم تلده أمك..و لابد وأن يترقب الأمل عندما يأتى من بعيد..كما يولد الصبح من رحم الليل المظلم.. و لتفتح عيونك على جنة خضراء تبث فى روحك أشواق الهوى و أسباب الحنين.. واجعلها تأخذ من عقلك كل أفكار الغربة الموحشة وتغسلها فى ماء معطر بالحب والأمان.. ولا تجعل من الليل كتلة ظلام تلقى على حياتك واّمالك.. بل اجعل منه خلوة لأشواقك ومحرابا لحبك.. واجعل من القمر رسولا لكل من تحب..وابعث معه كل رسائل العشق والهوى التى كتبتها وحدتك..فصدقنى ساعات الهم بطيئة ثقيلة كأنها دهر لاينقضى .. وساعات الفرح سريعة خفيفة كأنها لحظة فى دهر أبدى..فاغتنم ساعات فرحك من سنين أحزانك..

فالمرء منا فى هذة الحياة ما هو إلا عابر سبيل.. يبحر بسفينة حياته فى بحور الأيام حتى يصل بها إلى بر الأمان.. فلا تجعل سفينة حياتك خفيفة تتلاعب بها الأمواج كيفما تشاء.. بل اجعلها ثقيلة موزونة محملة بالإيمان والصبر والمعرفة.. واجعل قوامها وبدنها الأشواق والحنين.. واجعل من الأمل شراعها الذى تدفعه رياح الإرادة الواثقة..وليكن عقلك هو ربان هذه السفينة واجعل من القلب وزيرا له..

فليس هنالك أسعد من إنسان يعرف متى يشرك قلبه فى حكم عقله.

وليعلم كل غريب فى البلاد ..أن الفرج قريب وأن الله أقرب.. وأن الصبر على البلاء أحلى من الشفاء منه "يا أولى الألباب".. فلا تدع أحزان يومك تأكل اّمال غدك.. واجعل الأمل دائما نصب عينيك.. و اسع وراء الخيرواطلبه فقد قال الرسول-صلى الله عليه وسلم-"تفائلوا بالخير تجدوه".

يا أنا


إن كثيراً من الناس يكثرون من السؤال والبحث عن " الحب الحقيقي"، فالبعض يسأل: هل هناك أصلاً شئ اسمه الحب الحقيقي في ظل هذا العالم المادي؟! أم أن الحب الآن قد أصبح كالوجبات السريعة في عالم سريع؟! والبعض الآخر- وهم قلة- يسألون: إذا كان هناك حب حقيقي فأين نجد ذلك الحب؟ وهناك من يقول بأن هذا المصطلح هو مجرد حقنة مخدرة تريحنا قليلاً من عنت الحياة ومشاكلها حتى وإن كانت هذه الحقنة المخدرة هي في الأساس مجرد حقنة نفسية ليس إلا.

هناك رأيٌّ من الآراء التي تريحني علي مستواي الشخصي، بل إن هذا الرأي قد تحول عندي إلي قناعة ثابتة أثبتت صحتها أيام الحب والهوى التي قضيناها في كبدٍ وسهدٍ وعناء وسهر لليالي، هذا الرأي قاله أديبٌ قتلَ الحبَ كتابةً؛ فقد قال " لا يمكن للمحب أن يشعر بقوة الحب وسطوته إلا إذا قال لمن يحبه.. يا أنا".

تلك هي الحقيقة الثابتة التي تمكننا من الحكم علي الحب إذا كان حقيقياً أو مزيفاً، أو إذا كان الحب موجوداً ولكن إلي أي درجة هو حقيقي ومكتمل، وأنا للحقيقة لا أعتبر الحب بين شخصين حباً كاملاً إلا إذا انتهي هذا الحب بالزواج، وهذا لا يعني بالضرورة أنه ليس هناك حباً حقيقياً بين شخصين دونما زواج، ولكنه لا يكتمل إلا بالزواج مهما كانت درجة هذا الحب وعنفوانه.

فالإنسان كثيراً ما يهوي ويحب، ولكن إلي أي مدي سيستمر هذا الحب قبل أن يصبح مجرد جلد ميت، موجود ولكننا لا نستطيع أن نشعر به، فالجلد عندما يموت تستطيع أن تري مكانه من جسمك لكنك لا تستطيع أن تشعر به بعد موته، هكذا هي حكايات الحب القديمة، تترك أثراً في قلبك وفي نفسك، ولكن مع الوقت تتحول إلي جرح ميت له مكان في جسدك ولكن لا تستطيع أن تشعر به.

ولكن الزواج هو المنقذ الوحيد دون تحويل الحب إلي جرح ميت في القلب، وبدونه يبقي الحب حباً لكنه لا يكون حياً في القلب، بل يصبح مجرد ذكريات تمر عبر شريط من الأحداث بعضها حلو وبعضها الآخر مُر، ولكنها علي أي حال تبقي مجرد ذكريات.

لم أكن أتخيل أن تُخمد نار حبها في قلبي هكذا، فقلبي كان مريضاً بحبها مرضاً شديداً ولم أكن أتصور ساعتها بحال من الأحوال أن يكُفَّ قلبي عن لوعة الاشتياق إليها مهما كانت ظروف الحياة والأحوال، حتي وإن نال من هوانا الفراق، ولكن لم يبقي لي إلا مجرد ذكريات.. فقط ذكريات، لأنني ورغم حبي الشديد لها لم أستطع يوماً بأن أناديها.. يا أنا.

والآن عندما أسمع فيروز وهي تشدو: يا أنا.. يا أنا، تبدأ الذكريات تتسرب إلي عقلي ونفسي، ولكن دونما إحساس جارف، ولكن هذه الكلمات تؤكد لي في كل مرة أسمعها فيها أن حبي لها لم يكتمل، لأنني ببساطة لم أستطع أن أقول لها: يا أنا.

إن علاقة المحب بحبيبته حتي تكون كاملة لابد وأن تمر بمراحل خمسة، والأولي هي القبول وهذه المرحلة بالتحديد مرحلة ربانية ليس لنا يد فيها أبداً، فأنت تتقابل مع شخص من الأشخاص ربما تهضمه وربما لا، والمرحلة الثانية بعد القبول هي الإعجاب، لأنك لو قبلت شخصاً وتقبلت تصرفاته فمن الطبيعي أن تعجب بالكثير منها، والمرحلة الثالثة هي الحب ، فبعد الإعجاب يأتي الحب، وتجده شيئاً فشيئاً يتسرب إلي قلبك في خفوت كما يتسرب ضوء القمر في الليلة الظلماء فينير بضوئه الدروب، ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي العشق وهذه المرحلة تعتبر تطوراً طبيعياً للحب الحقيقي، وأخيراً المرحلة الخامسة وهي " يا أنا " وهي عبارة عن ذوبان الروحين في بعضهما البعض، يفكران بعقل واحد، ويحبان بقلب واحد، ويعيشان بنفس واحد.

ومن أجل ذلك تجد أن الحب هو مرحلة ثالثة وليست أخيرة في العلاقة، ويبقي لكمال هذه العلاقة مرحلتان هما العشق والذوبان، والذي يعني أن تقولها بملء الفم لحبيبتك " يا أنا ".

قبر الحي

يقول الشيخ علي في حديثه عن جحود الناس بعد النعمة والنسيان:" أظنهم يقولون إن في الأرض شيئين بمعنى واحد : قبور الأموات في بطنها،وأكواخ الفقراء على ظهرها ، وليس من فرق بينهما في النسيان لأنه يشملهما جميعا ، وإنما الفرق بينهما في حاليهما المتناقضين ، هذا قبر ميت وهذا قبر حي".

كنت وأنا صغير أري وجوهاً من الحياة اكتشفت الآن أنها كانت في أحلامي فقط، أو أن هذه الوجوه قد ذهبت بموت الكبار من أهلينا ومعارفنا، وتشعر أنهم قد أخذوا معهم الخير والاحترام وكل المعاني النبيلة.

كانت أمي- رحمها الله- معتادة علي عمل الخبز والفطائر بأنواعها المختلفة بنفسها، ولا أذكر مرة وأنا صغير أنني ذهبت لشراء الخبز مثلما كان يفعل أصحابي، وكانت عندما تنتهي من خبيزها- أو أثناء ذلك- تجهز مجموعة مختلفة مما عملت يداها وتضعها في قطعة من القماش وتقم بتغطيته بإحكام حتي لا يبين للناس ما في داخل هذه القطعة من القماش، ثم تعطيها لي وتقول لي: اذهب إلي فلانة وأعطها هذه اللفة.

فآخذ منها- رحمها الله- اللفة وأحملها فوق يدي وأهرول مسرعاً في طريقي، وكنت أشعر بحرارتها تلسع يدي ولكني كنت مستمتعاً بهذه الحرارة ومحباً لها،أذهب وفي داخلي إحساس جارف من السعادة يكاد يطير بي من فوق الأرض، وأذهب لفلانة أدق عليها الباب، وكانت فلانة هذه سيدة عجوز لها من الأولاد والأحفاد الكثير، ولكنها قابعة في غرفة أكلت جدرانها قسوة أبنائها وأحفادها، وارتسمت فوق هذه الجدران لوحات من البؤس والوحدة والشقاء الخارج عن الإرادة، وهنالك في ركن من أركان حجرتها أجد الحزن واقفاً يعلن عن سيطرته علي جميع المنافذ التي تستطيع السعادة أن تنفذ من خلالها إلي تلك الحجرة، وتبقي مكابدة السؤال هي الونيس الوحيد لها في حجرتها ليل نهار.

فكنت في كل مرة أذهب فيها إلي هذه السيدة أذهب متحدياً ذلك الحزن البغيض الذي كنت أراه واقفاً أمامي علي باب حجرتها، ولكني كنت أواجهه وأنفذ من خلاله إليها محاولاً إدخال بعض السعادة في أعقابي.

تفتح لي الباب فأدخل، وتستقبلني بالقبلات وتجلسني أمامها، ثم أعطيها ما أحمله فوق يدي، فتتناوله وهي فرحة به، ليس لأنه طعام قد جاء دون عناء السؤال أو مكابدة الحال، ولكنها كانت تشعر من خلال ذلك بأنها موجودة وغير منسية، وأن هناك من الأحياء مَن يشعر بوجودها ويدق عليها باب قبرها الحي.

ثم تأكل وتبكي، ولم أكن أعرف وقتها لماذا تبكي، كان عقلي الصغير يصور لي أنها تبكي من سخونة الخبز!! أو من هذا الحزن العابس القبيح الوجه الذي كنت أراه عندما أذهب إليها!! وفي ذات مرة سألت أمي عن سبب بكاء جارتنا هذه في كل مرة أذهب إليها؟ فجاوبتني أمي بطيبتها وفطرتها بأن الله يريد ذلك- "ربنا عاوز كده"، وأثارت هذه الإجابة نفسي إثارة لم تنتهي حتي قدر الله لي أن أفهم لماذا أراد الله ذلك لهذه السيدة، ولماذا أراد الله لي أن أشاهد ذلك وأسأل هذا السؤال، ولكني علي كل حالٍ عرفت لماذا كانت تبكي.

ليس الفقر أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الإنسان، ولا هو عدو من أعداء النفس البشرية السليمة، قد يبكي الإنسان من فقره ويشكيه إلي الله والناس، ولكن هناك أشياء أخري كثيرة تُبكي الإنسان ليس الفقر أولها، بل هنالك ما هو أسوأ في طبائع البشر من جحود ونكران، ونسيانهم بأنهم كانوا في يوم من الأيام أحوج من الفقراء المعدمين إلي الرحمة والاهتمام، قد ينسي الإنسان أنه في يوم من الأيام لم يكن من الذين يتنفسون علي ظهر هذا الكوكب وأن أمه هي كانت البوابة التي عبر منها إلي هذه الحياة، قد ينسي الإنسان أن أمه قد حملته داخل أحشائها 9 أشهر عناءً بعناء وتعباً فوق تعب، قد ينسي أيضاً أنها كانت تبني جسده من جسدها وتعطيه من قوتها ما يستطيع به أن يقوي، ولكن لا يجب علي الإنسان أن ينسي أبداً بأنه كما يدين يدان، وأن الأيام بها من الغدر والدوائر ما سوف يجعله أحوج بكثير إلي الرعاية ممن كانت رعايتهم واجبة عليه ولكنه نسي.. نعم نسي

الابتسامة الأخيرة

لم أستطع النوم في هذه الليلة.. استقبلتُ آذان الفجر ورأسي تشتعل قلقا عليها.. أفكر فيها طوال الليل.. صليت الصبح وارتديت ملابسي في بطئ شديد.. كنت عندما أضع قطعة من الملابس على جسدي لارتدائها أشرع في استنشاق رائحتها.. والتفكير في أنها هي من اعتنت بهذه الملابس وبي .. توجهت نحو باب شقتي وفتحت الباب وهممت بالنزول.. ولكني فجأة استدرتُ وأخذت أنظر إلى كل أركان المنزل وكأني أودعه نيابة عنها.. صارعت دمعة في عيوني صراعا كبيرا.. ولكنها هزمتني وسالت.. وانطلقتُ متوجها إليها.. يقودني خليط من المشاعر التي لا أستطيع أن أفصلها أو حتى أصف ملامحها.. لكنها كانت مشاعر جارفة تدفعني دفعا للذهاب اليها..خرجتُ إلى الشارع ورفعت عيني إلى السماء.. وكانت وقتها قبيل شروق الشمس بلحظات.. وتذكرت كلماتها وهي تقول عندما كنا ننتهي من صلاة الفجر " استمتع بهذا الجو الصحو فهذا هو جو أهل الجنة.. لا برد ولا حر ".. ومرة أخرى وجدتني أصارع دمعة أخرى.. ولكني هذه المرة لم أصارعها كثيرا وتركتها تعبر صفحة خدي علها تزيل قليلا مما يحمله صدري من شاعر ثقيلة.. واستفقت على سائق تاكسي يعبر الشارع فشاورت له فوقف.. فركبت وانطلقنا.. وطول المسافة من بيتي إلى المستشفى لم أتكلم ولم أعي لما حولي.. كانت تسيطر على عقلي وقلبي فكرة واحدة فقط... هي أنني سوف أقابلها وهي في أحسن حال.. وقفت أمام باب المستشفى أقدم رجلا وأؤخر الأخرى..ولكني على كل حال استجمعت قواي ولملمت نفسي ودخلت.. وعلى باب غرفتها حرصت أن أختلس النظر إليها قبل أن أدخل عليها.. فنظرت فوجدتها نائمة على سريرها نوما هادئا ..فاقتربتُ دون أن أحدث أقل صوت خوفا من أن تصحو.. وان كنت أريد أن تصحو بكل جوارحي.. وعندما جلست بجانبها فتحت عينيها ونظرت إلى في حنين وقالت: لماذا أتيت مبكرا هكذا؟ فقلت لها وأنا أجبر وجهي على الابتسام: لا أريد أن أضيع أي وقت بعيدا عنك..فوجم وجهها لثوانٍ ولكنها حاولت أن تبتسم ولكنها فشلت في ذلك.. وأدارت وجهها عني وأخذت تبكي بكاءا مكتوما.. ولكنه لم يكن مكتوما بالنسبة لي.. وكأن قلبي هو الذي كان يبكي.. وكل قطرة من قطرات دموعها كانت وكأنها جبلا يقع فوق رأسي.. وقاومت دموعي مقاومة شديدة هذه المرة وانتصرت عليها .. ونظرت اليها وأنا أحاول الابتسام وقلت: ماذا الآن؟ أنا موجود بجانبك.. وإن شاء الله سوف تخرجين اليوم أو غدا كما أخبرني الطبيب.. والحمد لله حالك اليوم أحسن من أي يوم مضى .. فطلبت مني أن أحضر لها بعض الأشياء .. فذهبت مسرعا لاحضار ما طلبته.. وعندما عدت وجدتها جالسة فوق سريرها محنية الرأس.. وبجانبها الممرضة تحاول أن تتكلم معها.. وبعدها بقليل جاءت ممرضة أخرى ومعها جهاز التنفس الصناعي.. فقالت لها الممرضة.. ايه يا جميل .. ها هو محمد .... فرفعت رأسها ببطئ ونظرت إليّ وابتسمت ابتسامة لا أستطيع أن أصفها رغم كل محاولاتي.. ابتسامة أخرجتني من الدنيا وذهبت بي إلى عالم علوي.. ابتسامة أراها كل يوم قبل أن أخلد إلى نومي ولا أستطيع أن أصفها.. تلك الابتسامة التي عرفت بعدها بدقائق أنها كانت ابتسامة الوداع.. ولكن هذه الابتسامة كان فيها كلاما كثيرا وقع في قلبي بكل حرف من حروفه.. هذه الابتسامة اختصرت كل الكلام الذي كانت تريد أن تقوله في ابتسامة .. فجاء الطبيب وأخرجني من الغرفة.. وخرجت وأنا لا أرى أمامي إلا هذه الابتسامة.. ودقائق أخرى وخرج الطبيب.. وقرأت في وجهه ما يريد أن يقوله.. فاقترب مني وقال.. شد حيلك البقاء لله.. سكتُ ولم أستطع أن أقول شيئا.... وتوجهت نحو الغرفة ودخلت عليها.. واقتربت واقتربت حتى أزلت الغطاء عن وجهها أملا في أن أرى تلك الابتسامة على وجهها.. ونظرت لوجهها فرأيته نائما نوما هادئا كما رأيتها عندما دخلتُ عليها في أول اليوم.. واحتضنتها بقوة وأنا أبكي .... وجاءت خالتي فنظرت إلى وجهي فعرفت فيه ما أصابني.. فانهارت.. وانا لازلت واقفا في مكاني أري تلك الابتسامة .. ماتت أمي .. ولم أكن أعرف قبلها ماذا يعني موت الأم بالنسبة للمرء..كنت أعتقد أن موت الأب أصعب من موت الأم.. ولكني ومنذ ماتت أمي لم أشعر بالأمان.. كأنها أخذت معها كل صلة تصلني بالأمان.. الأم هي مملكة الأمان في كل وقت.. وما حملني على كتابة هذه الكلمات ما رأيته في منامي أمس وما شعرت به من أمان وأنا نائم بجانبها كما كنت أفعل وأنا صغير..وعندما استيقظت من نومي في لحظة فقدت الاحساس بالأمان وراودني نفس الشعور الذي كنت أشعر به عندما كنت صغيرا عندما كنت أستيقظ في الليل ولا أجدها بجانبي.. أوصي الجميع بأن يبر والديه .. وأوصي كل الذين يتمتعون بأمهاتهم بأن يأخذوا من حضنها قدر ما يستطيعون.. صدقوني ليس هناك مثل حضن الأم.. الأم هي الشخص الوحيد الذي يحبك دون أن ينتظر منك أن تبادله هذا الحب أو جزء منه.. متعكم الله بأمهاتكم.. ورحم الله أمهاتنا
قلبي وقلبك يمتزجان خفقانا
فيا حرّ روحي إن لم ترحمي انسانا
يقدم لعيونك من بستانهِ زهرة
وفي كل يوم يبكي هواه هوانا
أنا وإن تذوقت اللوعَ في طرفك
طرتُ إليكِ كما العصفور طيرانا
وان استنزف السهد كلماتي
فأنتِ أكبر منها في نفسي شانا
للكِ أقدمُ عهد الهوى ووعوده
وإن تنازعتني الأشواق أحزانا
فقلبي في هواي دائما أملُكُهُ
ومن أجلك تمرد عليّ طغيانا